الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
من جملة الواحات بناها: مناقيوش باني مدينة إخميم كان أحد ملوك القبط القدماء قال ابن وصيف شاه: وكان في حزم أبيه وحنكته تعظم في أعين أهل مصر وهو أوّل من عمل الميدان وأمر أصحابه برياضة أنفسهم فيه. وأوّل من عمل المارستان لعلاج المرضى والزمنى وأودعه العقاقير ورتب فيه الأطباء وأجرى عليهم ما يسعهم وأقام الأمناء على ذلك وصنع لنفسه عيدًا فكان الناس يجتمعون إليه فيه وسماه عيد الملك في يوم من السنة فيأكلون ويشربون سبعة أيام وهو مشرف عليهم من مجلس على عمد قد طوّقت بالذهب وألبست فاخر الثياب المنسوجة بالذهب وعليه قبة مصفحة من داخل بالرخام والزجاج والذهب وفي أيامه بنيت: سنترية في صحراء الواحات عملها من حجر أبيض مربعة وفي كل حائط باب في وسطه شارع إلى حائط محاذِ له وجعل في كل شارع يمنة ويسرة أبوابا تنتهي طرقاتها إلى داخل المدينة. وفي وسط المدينة ملعب يدور به من كل ناحية سبع درج وعليه قبة من خشب مدهون على عمد عظيمة من رخام وفي وسطه: منار من رخام عليه صنم من صوّان أسود يدور مع الشمس بدورانها وبسائر نواحي القبة صورة معلقة تصفر وتصيح بلغات مختلفة فكان الملك يجلس على الدرجة العالية من الملعب وحَوْلَهُ بنوه وأقاربه وأبناء الملوك وعلى الدرجة الثانية رؤساء الكهنة والوزراء والثالثة رؤساء الجيش وعلى الرابعة الفلاسفة والمنجمون والأطباء وأرباب العلوم وعلى الخامسة أصحاب العمارات وعلى السادسة أصحاب المهن وعلى السابعة العامّة. فيقال: لكل صنفٍ منهم انظروا إلى من دونكم ولا تنظروا إلى مَن فوقكم لا تلحقونهم وهذا ضرب من التأديب وقتلتهُ امرأته بسكين فمات وكان ملكه ستين سنة. وسنترية الآن بلد صغير يسكنه نحو ستمائة رجل من البرّ يعرفون سِيْوَة ولغتهم تعرف بالسيوية تقرب من لغة زناتة وبها حدائق نخل وأشجار من زيتون وتين وغير ذلك وكرم كثير وبها الآن نحو العشرين عينًا تسيح بماء عذب ومسافتها من الإسكندرية أحد عشر يومًا ومن جيزة مصر أربعة عشر يومًا وهي قرية يصيب أهلها الحمى كثيرًا وثمرها غاية في الجودة وتعبث الجنّ بأهلها كثيرًا وتختطف من انفرد منهم وتسمع الناس بها عزيف الجنّ. بناها أحد ملوك القبط الأول ويقال له: البودسير بن قفطيم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام قال ابن وصيف شاه: وأراد البودسير أن يسير مغرّبًا لينظر إلى ما هنالك فوقع على أرض واسعة متخرّقة بالمياه والعيون كثيرة العشب فبنى فيها مناير ومنتزهات وأقام فيها جماعة من أهل بيته فعمروا تلك النواحي وبنوا فيها حتى صارت أرض الغرب عمارة كلها وأقامت كذلك مدّة كثيرة وخالطهم البربر فنكح بعضهم من بعض ثم إنهم تحاسدوا وبغى بعضهم على بعض فكانت بينهم حروب فخرب ذلك البلد وباد أهله إلا بقية منازل تسمى الواحات. وقال المسعوديّ: وأما بلاد الواحات فهي بين بلاد مصر والإسكندرية وصعيد مصر والغرب وأرض الأحابش من النوبة وغيرهم وبها أرض شبية وزاجية وعيون حامضة وغير ذلك من الطعوم. وصاحب الواحات في وقتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة عبد الملك بن مروان وهو رجل من لواتة إلا أنه مروانيّ الذهب ويركب في آلاف من الناس خيلًا ونجبًا وبينه وبين الأحابش نحو من ستة أيام وكذلك بينه وبين سائر ما ذكرنا من العمائر هذا المقدار من المسافة وفي أرضه خواص وعجائب وهو بلد قائم بنفسه غير متصل بغيره ولا يفتقر إليه وحدّثني وكيل أبي الشيخ المعز حسام الدين عمرو بن محمد بن زنكي الشهرزوري: أنه سمع ببلاد الواحات أنّ فيها شجرة تاريخ يقطف منها في سنة واحدة أربعة عشر ألف حبة نارنج صفراء سوى ما يتناثر وسوى ما هو أخضر فلم أصدّق ذلك لغرابته وقمت حتى شاهدت الشجرة المذكورة فإذا هي كأعظم ما يكون من شجر الجميز بِمَصْر وأكبر وسألت مستوفي البلد عنها فأحضر إليّ جرائد حسباناته وتصفحها حتى أوقفني على أن منها في سنة كذا قطف من النارنجة اللانية أربعة عشر ألف حبة نارنج مستوية صفراء سوى ما بقي عليها من الأخضر وسوى ما تناثر منها وهو صغير. وبالواحات الشبّ الأبيض بواد تجاه مدينة أدفو كان في زمن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر وفي زمن ابنه الصالح نجم الدين أيوب على مقطعي الواحات حَمْلُ ألف قنطار شب أبيض في كل سنة إلى القاهرة ويطلق لهم في نظير ذلك جوالي الواحات ثم أهمل هذا فبطل. وفي سنة تسع وثلاثين وثلثمائة سار ملك النوبة في جيش عظيم إلى الواحات فأوقع بأهلها وقتل منها وأسر كثيرًا. ذكر مدينة قوص اعلم: أنّ قوص أعظم مدائن الصعيد وهي على النيل بنيت بعد قفط في أيام ملك من ملوك القبط الأول يقال له: سدان بن عديم بن البودسير بن قفطريم. قيل: سميت باسم قوص بن قفط بن أخميم بن سيفاف بن أشمن بن مصر قال ابن وصيف شاه: سدان بن عديم هو الذي بنى الأهرام الدهشورية من الحجارة التي قطعت في زمان أبيه وعمل مصاحف النيرنجات وهيكل أرمنت وعمل في المدائن الداخلة من أنْصِنا هيكلًا وأقام فيه في أتريب وهيكلًا في شرقيّ الإسكندرية وبنى في الجانب الشرقيّ مدائن وفي أيامه بُنيتْ قوص العالية وأسكن فيها قومًا من أهل الحكمة وأهل الصناعات وكان الحبش والسودان قد عاثوا في بلده فأخرج لهم ابنه منقاوش في جيش عظيم فقتل منهم وسبى واستعبد الذين سباهم وصار ذلك سُبَّةً لهم واقتطع معدن الذهب من أرضهم وأقام ذلك السبي يعملون فيه ويحملون الذهب إليه وهو أوّل من أحب الصيد واتخذ الجوارح وولد الكلاب السلوقية من الذئاب والكلاب الأهلية وعمل من العجائب والطلسمات لكل فنّ ما لا يحصى كثرة. وقال الأدفويّ في تاريخ الصعيد: وقوص بجانب قفط حكى بعض المؤرخين: أنها شرعت في العمارة وشرعت قفط في الخراب من سنة أربعمائة. قيل: إنه حضر مرّة قاضي قوص فخرج من أسوان أربعمائة راكب بغلة إلى لقائه. وفي شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة أحضر إلى الملك الظاهر بيبرس فلوس وُجدت مدفونة بقوص فأخذ منها فلس فإذا على أحد وجهيه صورة ملك واقف وفي يده اليمنى ميزان وفي اليسرى سيف وعلى الوجه الآخر رأس فيه أذن كبيرة وعين مفتوحة وبدائر الفلس كتابة فقرأها راهب يونانيّ فكان تاريخه إلى وقت قراءته ألفين وثلثمائة سنة وفيه أنا غلياث الملك ميزان العدل والكرم في يميني لمن أطاع والسيف في يساري لمن عصى وفي الوجه الآخر أنا غلياث الملك أذني مفتوحة لسماع المظلوم وعيني مفتوحة أنظر بها مصالح مُلكي. وقوص كثيرة العقارب والسام أبرص وبها صنف من العقارب القتالات حتى إنه كان يقال بها أكَلة العقرب لأنه كان لا يرجى لمن لسعته حياة واجتمع بها مرّة في يوم صائف على حائط الجامع سبعون سام أبرص صفًا واحدًا وكان الواحد من أهلها إذا مشى في الصيف ليلًا خارج داره يأخذ بإحدى يديه مسرجة تضيء له وبالأخرى مِشَكٌ من حديد يَشك به العقارب ثم إنها تلاشت بعد سنة ثمانمائة. فلما كانت الحوادث والمحن مات بها سبعة عشر ألف إنسان في سنة ست وثمانمائة وكانت من العمارة بحيث إنه تعطل منها في شراقي البلاد سنة ست وسبعين وسبعمائة مائة وخمسون مغلقًا والمغلق عندهم بستان من عشرين فدّانًا فصاعدًا وله ساقية بأربعة وجوه وذلك سوى ما تعطل مما هو دون ذلك وهو كثير جدًّا. ذكر مدينة أسنا قال الأُدفويّ: وذكر أنّ أُسنا في سنة حصل منها أربعون ألف إردب تمر واثنا عشر ألف إردب زبيب وأسنا تشمل على ما يقارب ثلاثة عشر ألف منزل وقيل: إنه كان بها في وقت سبعون شاعرًا. ذكر مدينة أدفو ومدينة أدفو يقال بالدال المهملة ويقال أيضًا بالتاء المثناة من فوق. قال الأدفويّ: أخبرني الخطيب العدل أبو بكر خطيب أدفو: أن جمارة طرحت ثلاثة شماريخ في كل شمروخ تمرة واحدة وأنه قلع الجمارة بأصلها ووزنها فجاءت خمسة وعشرين درهمًا كلها بجريدها وخشبها وذلك بأدفو. ولما كان بعد سنة سبعمائة حفر صناع الطوب فظهرت صورة شخص من حجر شكل امرأة متربعة على كرسيّ وعليها مثال شبكة وفي ظهرها لوح مكتوب بالقلم اليوناني رأيتها على إهناس هي كورة من كور الصعيد يقال: إنّ عيسى ابن مريم عليه السلام ولد بها وإن نخلة مريم عليها السلام التي ذُكرت في قوله تعالى: " ذكر مدينة البهنسا هذه المدينة في جهة الغرب من النيل بها تعمل الستور البهنسية وينسج المطرّز والمقاطع السلطانية والمضارب الكبار والثياب المحبرة وكان يعمل بها من الستور ما يبلغ طول الستر الواحد ثلاثين ذراعًا وقيمة الزوج مائتا مثقال ذهب وإذا صنع بها شيء من الستور والأكسية والثياب من الصوف أو القطن فلا بدّ أن يكون فيها اسم المتخذ له مكتوبًا على ذلك مضوا جيلًا بعد جيل. وقبط مصر مجمعون على أنَّ المسيح وأمّه مريم كانا بالبهنسا ثم انتقلا عنها إلى القدس. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى عن المسيح وأمّه: " وهو أول من عبد البقر من أهل مصر وكان السبب في ذلك أنه اعتلّ علةً يئس منه فيها فرأى في منامه صورة روحانيّ عظيم يقول له: إنه لا يخرجك من علتك إلا عبادتك البقر لأنّ الطالع كان وقت حلولها بك صورة ثور بقرنين ففعل ذلك وأمر بأخذ ثور أبلق حسن الصورة وعمل له مجلسًا في قصره وسقفه بقبة مذهبة فكان ينجره ويطيب موضعه وكل به سائسًا يقوم به ويكنس تحته ويعبد سرًا من أهل مملكته فبرأ من علته. وهو أوّل مَنْ عمل العجل في علته فكان يركب عليها البيوت من فوقها قباب الخشب وعمل ذلك من أحب من نسائه وخدمه إلى المواضع والمنتزهات وكان البقر يجرّه فإذا مرّ بمكان نزهة أقام فيه وإذا مرّ بمكان خراب أمر بعمارته فيقال: إنه نظر إلى ثور من البقر الذي يجرّ عجلته أبلق حسن الشية فأمر بترفيهه وسوقه بين يديه إعجابًا به وجعل عليه جلًا من ديباج فلما كان في يوم وقد خلا في موضع صار إليه وقد انفرد عن عبيده وخدمه والثور قائم إذ خاطبه الثور وقال له: لو رفهني الملك عن السير معه وجعلني في هيكل وعبدني وأمر أهل مملكته بعبادتي كفيته جميع ما يريد وعاونته على أمره وقوّيته في مملكته وأزلت عنه جميع علله فارتاع لذلك وأمر بالثور فغسل وطيب وأدخل في هيكل وأمر بعبادته فأقام ذلك الثور يعبد مدّة وصار فيه آية وهو أنه لا يبول ولا يروث ولا يأكل إلا أطراف ورق القصب الأخضر في كل شهر مرّة فافتتن الناس به وصار ذلك أصلًا لعبادة البقر وبنى مواضع كنز فيها كنوزًا وأقام عليها أعلامًا وبنى في صحراء الغرب مدينة يقال لها ديماس وأقام فيها منارًا ودفن حولها كنوزًا. ويقال: إن هذه المدينة قائمة وإنّ قومًا جازوا بها من نواحي الغرب وقد ضلوا الطريق فسمعوا بها عزيف الجن ورأوا ضوءًا يتراءى بها وفي بعض كتبهم أنَّ ذلك الثور بعد مدّة من عبادتهم له أمرهم أن يعملوا صورته من ذهب أجوف ويؤخذ من رأسه شعرات ومن ذنبه ومن نحاتة قرونه وأظلافه ويجعل في التمثال المذكور وعرّفهم أنه يلحق بعالمه وأمرَهُم أن يجعلوا جسده في جرن من حجر أحمر ويدفن في الهيكل وينصب تمثاله عليه وزحل في شرفه والشمس تنظر إليه من تثليث القمر زائد النور وينقش على التمثال علامات الكواكب السبعة ففعلوا ذلك وكللوه بجميع الأصناف من الجواهر وجعلوا عينيه جزعتين وغرسوا في الهيكل عليه شجرة بعدما دفنوه في الجرن الأحمر وبنوا منارًا طوله ثمانون ذراعًا على رأسه قبة تتلوّن كل يوم لونًا حتى تمضي سبعة أيام ثم تعود إلى اللون الأوّل وكسوا الهيكل ألوان الثياب وشقوا نهرًا من النيل إلى الهيكل وجُعل حوله طلسمات رؤوسها رؤوس القرود على أبدان اناس كل واحد منها لدفع مضرّة وجلب منفعة وأقام عند الهيكل أربعة أصنام على أربعة أبواب ودفن تحت كل صنم صنفًا من الكنوز وكتب عليها قربانها وبخورها وأسكنها الشجرة فكانت تعرف بمدينة الشجرة ومنها كانت أصناف الشجر تخرج وهو أوّل من عمل النيروز بمصر وفي زمانه بُنِيَت البهنسا وأقم بها أسطوانات وجعل فيما فوقها مجلسًا من زجاج أصفر عليه قبة مذهبة إذا طلعت الشمس ألقت شعاعها على المدينة. ويقال: إنه ملكهم ثمانمائة وثلاثين سنة ودفن في أحد الأهرام الصغار القبلية وقيل: في غربيّ الأشمونين ودفن معه من المال والجوهر والعجائب شيء كثير وأصناف الكواكب السبعة التي يرى الدفين والحية وألف سرج ذهبًا وفضة وعشرة آلاف جام وغضار من ذهب وفضة وزجاج وألف عقاقير لفنون الأعمال وزبروا عليه اسمه ومدّة ملكه ووقت موته. وفي سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ظهر بالأشمونين في وادٍ بين جبلين فساقي مربعة مملوءة ماء عذبًا صافيًا فمشى شخص على حافتها طول يوم وليلة فلم يبلغ آخرها. ويقال: إنها من عملُ سوريد باني الأهرام لتكون عدّة لما كانوا قد توقعوه من حدوث طوفان ناريّ فردم هذا الوادي بعد ذلك خوفًا من تلافِ الناس. يقول الشيخ الإمام محمد بن أحمد الغريانيّ: حدّثني عليّ بن حسن بن خالد الشعريّ ثلاث مرّات لم يختلف قوله عليّ فيها قال: حدّثني رجل من فزارة الساكنين بكورة البهنسا قال: خرجت أنا ورجل رفيق لي نرتاد البلاد ونطلب الرزق في الأرض وذلك بعد سنة عشر وثمانمائة فقطعنا الجبل الغربيّ من ناحية البهنسا وسرنا متوكلين على الله تعالى فأقمنا أيامًا ونحن نمشي ما بين الغرب والجنوب فوقعنا في وادٍ كثير الشجر والنبات والماء والكلأ ليس فيه أنيس وهو وادٍ واسع في الطول والعرض نحو يوم في الطول ويوم في العرض كله أعين وبساتين نخل وزيتون كثير الإبل والمعز والذئب والضبع به كثير والإبل به متوحشة وكذلك المعز قد صارت به وحشية بعد أن كانت آنسة به وليس بالوادي لا رائح ولا غادٍ من الناس قال: فأخبرني أنهما أقاما بالوادي نحوًا من شهرين أو ثلاثة وإنهما رأيا في وسط الوادي مدينة حصينة منيعة عالية السور شامخة القصور فإذا تقرّبا من سورها سمعا ضجيجًا عظيمًا وأصواتًا مهولة مخوفة ورأيا دخانًا يرتفع إلى جوّ السماء حتى يغطي سور المدينة وجميع ما فيها وإنّ تلك الإبل الوحشية عدت على رواحلهما الإنسية فآذتها وقتلتها فتحيل عند ذلك الرجلان الفزاريان بحيل وفتلا حبالًا وأشراكًا شباكًا من ليف النخل وقيدا تلك الإبل الوحشية وفتلا خوصًا وضفرًا قفاصًا من الخوص لزادهما وملأها تمرًا وزللًا من تلك الإبل الوحشية مكان رواحلهما عوضًا عنها وركباها متوجهين نحو الشرق وحملا معهما من الجريد أعني جريد النخل ما يعرفان به الطريق التي بينهما وبينها ويجعلان ذلك أمارات لمرورهما إليها فكانا كلما مرّا على شرف جعلا عليه جريدتين علمًا حتى وصلا إلى الجبل الغربيّ من مصر فنزلا إلى البهنسا فعَرفا قومهما وتحملا بأهاليهما فلما علوا سطح الجبل الغربيّ وجدا كلّ ما فرقاه من جريد النخل على رؤوس الآكام مجتمعًا في مكان واحد في أعلى الجبل فرجعا عند ذلك لأهاليهما ومن معهم إلى أرض البهنسا وهذا ما حدّثني به واللّه أعلم. ذكر مدينة الأشمونين كانت من أعظم مدن الصعيد يقال: إنها من بناء أشمون بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. وقال ابن وصيف شاه: كان أشمون أعدل ولد أبيه وأرغبهم في صنعةِ تبقى ويبقى ذكرها وهو الذي بنى المجالس المصفحة بالزجاج الملوّن وسط النيل وتقول القبط: إنه بنى سربًا تحت الأرض من الأشمونين إلى أنصنا تحت النيل وقيل: إنه حفره وعمله لبناته لأنهنّ كنّ يمضين إلى هيكل الشمس وكان هذا السرب مبلط الأرض والحيطان والسقف بالزجاج الثخين الملوّن. وقيل: إنّ أشمون كان أطول إخوته ملكًا. وقال أهل الأثر: إنه ملك ثمانمائة سنة وإنّ قوم عاد انتزعوا منه الملك بعد ستمائة من ملكه وأقاموا تسعين سنة واستولوا على البلد فانتقلوا إلى الدثينة من طريق الحجاز إلى وادي القرى فعمروها واتخذوا بها المنازل والمصانع وسلط الله عليهم الذر فأهلكهم وعاد ملك مصر إلى أشموم. ويقال: إنه عمل على باب الأشمونين أوزة من نحاس فكان الغريب إذا جاء ليدخل المدينة صاحت الأوزة وصفقت بجناحيها فيعلم به فإن أحبوا منعوه وإن أحبوا تركوه وكثرت الحيات في وقته فكانوا يصيدونها ويعملون من لحومها أدوية وترياقات ثم ساقوها بسحرهم إلى وادي الحيات في جبال لوبية ومراقية فسجنوها هناك. وقال في كتاب هروشيش: إن أشمون بن قبط أوّل ملوك المصريين وإنّه كان في زمان شاروح بن راغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وإن سِني الدنيا صارت إلى زمان شاروح ألفين وتسعمائة وخمس سنين يكون ذلك بعد الطوفان بستمائة وثلاث وستين وكان ينزل بأرض الأشمونين عدة بطون من بني جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا بادية أصحاب شوكة وكان معهم بنو مسلمة بن عبد الملك بن مروان خُلفاء لهم ومعهم بطن آخر يقال لهم: إنّ أباهم كان مولى لعبد الملك بن مروان ويزعمون أنهم من بني أمية صلبية وكان معهم أيضًا حلفاء لهم بنو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ينزلون أرض دلجة عند أشمون. ذكر مدينة إِخميم ضبطها البكري: بكسر الهمزة وإسكان الخاء ثم ميم وياء وميم على بناء إفعيل وهي في الجانب الشرقي من النيل والذي بناها مناقيوش أحد ملوك القبط الأول. قال ابن وصيف شاه: كان جلدًا محتكمًا فاستأنف العمارة وبنى القرى ونصب الأعلام وجمع الحكم ومصاحف الملوك والحكماء وعمل العجائب وبنى لنفسه مدينة انفرد بها وعمل عليها حصنًا ونصب عليه أربعة أعلام في كل ركن من أركانه علم وبين تلك الأعلام ثمانون صنمًا من نحاس وأخلاط في أيديهما السلاح وزبر على صدرها آياتها. وكان بمنف رجل من أولاد الكهنة من أعلم الناس بالسحر وأبصرهم بأخذ التماسيح والسباع وكان يُعلم الغلمان السحر فإذا حذقوا علم غيرهم فأمر الملك أن يبني له مدينة ويحوّل إليها وهي إخميم فملكهم مناقيوش نيفًا وأربعين سنة ومات فدفن في الهرم المحاذي لأطفيح ومعه شيء كثير من المال والجوهر والآنية والتماثيل وزبر عليه اسمه والوقت الذي هلك فيه قال: وذكر أهل إخميم: أن رجلًا أتى من الشرق وكان يلزم البربا ويأتي إليه كل يوم ببخور وخلوق فيبخر ويطيب صورة في عضادة الباب فيجد تحتها دينارًا فيأخذه وينصرف ففعل ذلك مدة حتى وشى به كلام له إلى عامل البلد فقبض عليه فبذل مالًا وخرج عن البلد. وكانت بربا إخميم من أعجب البرابي وأعظمها قد بنيت لخزن بُرهم فإنهم قضوا على أهل مصر بالطوفان قبل وقته بقرائن لكنهم اختلفوا فيه فقال بعضهم: تكون نار فتحرق ماء على جميع وجه الأرض وقال آخرون: بل يكون ماء فعملوا هذه البرابي قبل الطوفان وكان في هذه البربا صور الملوك الذين يملكون مصر وكانت مبنية بحجر المرمر وطول كل حجر منها خمسة أذرع في سمك ذراعين وهي سبعة دهاليز سقوفها حجارة طول الحجر منها ثمانية عشر ذراعًا في عرض خمسة أذرع مدهونة باللازورد وغيره من الأصباغ التي يحسبها الناظر كأنما فرغ الدَّهان منها الآن لِجَدتِها وكان كل دهليز منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة السيارة وجدران هذه الدهاليز منقوشة بصور مختلفة الهيئات والمقادير فيها رموز علوم القبط من الكيمياء والسيمياء والطلسمات والطب والنجوم والهندسة وغير ذلك أودعوها تلك الصور. وذكر ابن جبير في رحلته: أنّ طول هذه البربا مائتا وعشرون ذراعًا وسعتها مائة وسبعون ذراعًا وأنها قائمة على أربعين سارية سوى الحيطان دور كل سارية خمسون شبرًا وبين كل ساريتين ثلاثون شبرًا ورؤوسها في نهاية العظم كلها منقشة من أسفلها إلى أعلاها ومن رأس كل سارية إلى الأخرى لوح عظيم من الحجر المنحوت فيها ما فرعه ستة وخمسون شبرًا طولًا في عرض عشرة أشبار وارتفاع ثمانية أشبار وسطحها من ألواح الحجارة كأنها فرش واحد فيه التصاوير البديعة والأصبغة الغربية كهيئة الطيور والآدميين وغير ذلك في داخلها وخارجها وعرض حائط البربا ثمانية عشر شبرًا من حجارة مرصوصة كذا قاسها ابن جبير في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. ويقال: إنّ ذا النون عرف منها علم الكيمياء وما زالت هذه البربا قائمة إلى سنة ثمانين وسبعمائة فخرّبها رجل من أهل إخميم يعرف: بالخطيب كمال الدين بن بكر الخطيب علم الدين عليّ ونال منها مالًا فلم تطل حياته ومات ومن حينئذِ تلاشى أمر إخميم إلى أن خربت وقد ذكر جماعة أنّ بربا إخميم كانت في هيئة غلام أمرد عريان وإنّ قومًا دخلوها مرّة فتبعهم وأخذ يضربهم ضربًا وجيعًا حتى خرجوا هاربين وحكى مثل ذلك عمن دخل الأهرام أيضًا. وقد حكي أنّ رجلًا ألصق على صورة من بربا إخميم شمعة فكان إذا تركها في موضع التجأت العقارب إليها وإذا وضع الشمعة في تابوت اجتمعت العقارب حوله. ويقال: إنه كان في بربا إخميم شيطان قائم على رجل واحدة وله يد واحدة وقد رفعها إلى الهواء وفي جبهته وحواليه كتابة وله إحليل ظاهر ملتصق بالحائط وكان يذكر أنّ من احتال حتى ينقب على ذلك الإحليل حتى يخرجه من غير أن ينكسر ويعلقه على وسطه فإنه لا يزال منغطًا إلى أن ينزعه ويجامع ما أحب ولا يفتر ما دام معلقًا عليه وإنَّ بعض من وَليَ إخميم اقتلعه فوجد منه شيئًا عجيبًا من ذلك وكانت الأنطاع تجلب من إخميم وبها تعمل. ويقال: إنه كان بها اثنا عشر ألف عريف على السحرة وكان بها شجر البنج ويقال: إنّ الذي بنى بربا إخميم اسمه دومريا وإنه جعل هذه البربا مثلًا للأمم الآتية بعده وكتب فيها تواريخ الأمم والأجيال ومفاخرهم التي يفتخرون بها وصوّر فيها الأنبياء والحكماء وكتب فيها من يأتي من الملوك إلى آخر الدهر وكان بناؤه إياها والنسر برأس الحمل والنسر يُقيم عندهم في كل برج ثلاثة آلاف سنة. قلت: والنسر في زماننا بآخر باب برج الجدي فيكون على ذلك لهذه البربا منذ بنيت نحو الثلاثين ألف سنة. وذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم القيسيّ في كتاب تحفة الألباب: أن هذه البربا مربعة من حجارة منحوتة ولها أربعة أبواب يفضي كل باب إلى بيت له أربعة أبواب كلها مظلمة ويصعد منها إلى بيوت كالغرف على قدرها. ذكر مدينة العقاب قال المسعوديّ: مدينة العقاب غربيّ أهرام أبوصير بالجيزة على مسيرة خمسة أيام بلياليها للراكب المجدّ وقد عوّر طريقها وعمي المسلك إليها والسمت الذي يؤدي نحوها وفيها عجائب البنيان والجواهر والأموال. وقال ابن وصيف شاه: وكان الوليد بن دومع العمليقيّ قد خرج في جيش كثيف يتنقل في البلدان ويقهر ملوكها فلما صار بالشام وجه غلامًا له يقال له: عون فسار إلى مصر وفتحها ثم سار فتلقاه عون ودخل مصر فاستباح أهلها. ثم سنح له أن يقف على مصب النيل فخرج في جيش كثيف واستخلف عونًا على مصر وأقام في غيبته أربعين سنة وإنّ عونًا بعد سبع سنين من مسيرة تجبر وادّعى أنه الملك وأنكر أن يكون غلام الوليد وإنما هو أخوه وغلب بالسحر وسبى الحرائر فمال الناس إليه ولم يدع امرأة من بنات ملوك مصر إلا نكحها ولا مالًا إلا أخذه وقتل صاحبه وهو مع ذلك يكرم الكهنة ويعظم الهياكل فاتفق أنه رأى الوليد في منامه وهو يقول له: من أمرك أن تتسمى باسم الملك وقد علمت أنه من فعل ذلك استحق القتل ونكحت بنات الملوك وأخذت الأموال بغير واجب ثم أمر بقدرٍ مُلِئت زيتًا وأحميت حتى غَلت ونزع ثيابه ليلقيه فيها فأتاه عقاب فاختطفه وحلق به في الجوّ وجعله في هوّة على رأس جبل فسقط إلى وادٍ فيه حمأة منتنة فانتبه مرعوبًا وقص ذلك على كهنته فقالوا: نحن نخلصك منه بأن تعمل عقابًا وتعبده فإنه الذي خلصك في نومك فقال: أشهد لقد قال لي: اعرف لي هذا المقام ولا تنسه فعمل عقابًا من ذهب وجعل عينيه جوهرتين ووشحه بالجوهر وعمل له هيكلًا لطيفًا وأرخى عليه ستور الحرير وأقبلوا على تبخيره وقربانه حتى نطق لهم فأقبل عون على عبادته ودعا الناس إلى ذلك فأجابوه ثم أمر فجمع له كل صانع بمصر وأخرج أصحابه إلى صحراء الغرب لطلب أرض سهلة حسنة الاستواء يُدخل إليها من مواضع صعبة وجبال وعرة بحيث تقرب من مغيض الماء التي هي اليوم: الفيوم وكانت مغيضًا لماء النيل حتى أصلحها يوسف عليه السلام ليجري الّماء منها إلى المدينة فخرجوا وأقاموا شهرًا يطوفون حتى وجدوا بغيته فلم يبق بمصر فاعل ولا مهندس ولا أحد له بصر بالبناء وقطع الصخور ونحتها إلا وجَّه إليها وأنفذ ألف رجل من الجيش وسبعمائة ساحر لمعاونتهم وأنفذ معهم الآلات والأزواد على العجل وطريق هذه العجل إلى الفيوم في صحراء الغرب واضحة من خلف الأهرام. فلما تكامل له ما أراد من نحت الحجارة خطوا المدينة فرسخين في مثلهما وحفروا في الوسط بئرًا جعلوا فيها تمثال خنزير من نحاس بأخلاط ونصبوه على قاعدة نحاس ووجهه إلى الشرق وذلك بطالع بيت زحل واستقامته وسلامته وكان في شرفه وذبحوا خنزيرًا ولطخوا التمثال بدمه في وجهه وبخروه بشيء من شعره وحشوا جوفه بدمه وشعره وعظامه ولحمه ومرارته وجعلوا في أذنيه من مرارته وحرّقوا بقية الخنزير وجعلوا رماده في قلة من نحاس بين يدي التمثال ونقشوه بآيات زحل ثم شقوا في البئر من الجهات الأربع في كل جهة سربًا إلى حيطان المدينة وعملوا على أفواهها منافس تجذب الهواء وسدّوا البئر من الجهات الأربع قبة على عمد مرتفعة على حيطان المدينة وجعلوا فيها شوارع يتصل كل شارع بباب من أبواب المدينة وفصلوها بالطرقات والمنازل وجعلوا حول القبة تماثيل فرسان من نحاس بأيديهما حراب ووجوهها تجاه الأبواب وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود فوقه حجر أحمر عليه حجر أصفر من فوقه حجر أخضر وفوق الجميع حجر أبيض يشف وكلها مبنية بالرصاص المصبوب بين الحجارة وفي قلوبها أعمدة من حديد على بناء الأهرام وجعلوا طول حصنها ستين ذراعًا في عرض عشرين وعلى رأس كل باب حصن بأعلاه عقاب كبير من صفر وأخلاط قد نشر جناحيه وهو أجوف وعلى كل ركن فارس بيده حربة ووجهه إلى خارج المدينة وساق الماء إلى الباب الشرقيّ ينحدر في صبه إلى الباب الغربيّ ويخرج إلى صهاريج وكذلك من الباب الجنوبيّ إلى الشماليّ وقرّب للعقاب عقبانًا ذكورًا واجتلب الرياح إلى أفواه التماثيل فصار يسمع لها أصوات هائلة ووكل بها أرواحًا تمنع الداخل إليها إلا أن يكون من أهلها. ونصب العقاب الذي يتعبد له تحت القبة في وسط المدينة على قاعدة بأربعة أركان على كل ركن وجه شيطان وجعلها على عمود يديرها فكان العقاب يدور إلى الجهات فيقيم في كل جهة ربع السنة فلما تمّ ذلك نقل إلى المدينة الأموال والجواهر التي بمصر من عهد الملوك والتماثيل والحكم وتراب الفضة والعقاقير والسلاح وحوَّل إليها كبار السحرة والكهنة وأصحاب الصنائع والتجار وقسم المساكن بينهم فلا يختلط أهل صناعة بسواهم وعمل بها ربضًا لأصحاب المهن والزراعة وعقد على تلك الأنهار قناطر يمشي عليها الداخل إلى المدينة وجعل الماء يدور حول الربض ونصب عليها أعلامًا وحرسًا ثم غرس وراء ذلك مما يتصل بالبرية النخل والكرم وجميع أصناف الشجر على أقسام مقسومة ومن وراء ذلك كله مزارع قال: وبين هذه المدينة وبين منف ثلاثة أيام وكان يقيم فيها ويخرج إليها ثم يعود إلى منف وكان لها أربعة أعياد في السنة وهي: الأوقات التي يتحوّل العقاب فيها فلما تمّ لعون ذلك اطمأنّ قلبه إلى أن وافى إليه كتاب الوليد من النوبة يأمره بحمل الأزواد ونصب الأسواق فوجه إليه في البرّ والبحر بما أراد وحوّل أهله ومن اصطفاه من بنات الملوك والكبراء إلى المدينة. فلما قرب الوليد خرج إليها وتحصن فيها واستخلف على منف فقدم الوليد وقد سمع ما فعله عون فغضب وهَمَّ أن يبعث إليه جيشًا فعُرف بخبر المدينة ومنعتها وخبر السحرة فكتب إليه أن يقدم عليه ويحفره عاقبة التخلف فأجابه ما على الملك مني مؤنة ولا تعرّض ولا عيب في بلده لأني عبده وأنا له ردء في هذا المكان من كل عدوّ يأتيه من الغرب ولا أقدر على المسير إليه لخوفي منه فليقرّني الملك بحالي كأحد عماله وأوجه إليه ما يُلزمني من خراجه وهداياه وبعث إليه بأموال جليلة وجوهر نفيس فكف عنه وأقام الوليد بمصر حتى مات.
|